"لمَ هذا المكان النائي؟"
ينسى المرء هذا السؤال ما أن يدرك أن الفنانين، وهم الشريحة المستفيدة من هذا المكان، يعتبرون أن أحلام وعبد الإله لمسفري قد وفقا في العثور على المكان المناسب لمشروعهما الخيالي، الذي تقود إليه طريق ترابية يطلق غبارها طيوراً وهمية، صار الرسامون يستلهمون أجنحتها في التحليق برؤاهم. ما يراه المرء في الرسوم المنجزة في ذلك الفضاء الأبيض لا يفارق تلك الرؤى التي لا يمكن القبض عليها في مكان آخر، فهي صنيعة غدها الذي لم يتشكل بعد متأثراً بصورة الشمس التي تسقط في المياه القريبة من غير أن يمحو الليل الذي يتبعها نهارها الذي استقر في العيون.
كنت مدعواً إلى مركز الفن المعاصر في أصيلة، البلدة المغربية الصغيرة التي اكتسبت شهرتها عربياً وعالــمياً بســبب موســمها الثقافي الســـنوي، وهو ما جعلني أفكر في أن ذلك الموســم صار يمهد لموعده بأنشطة، هي جزء منه، غير أنها لا تقع فيه. غير أنني ما أن وصلت إلى المركز حتى اكتشفت خطأ تقديراتي. لا لأنه يقع بعيداً عن الحيز الجغرافي الذي يتحرك فيه الموسم، وحسب بل لأنه أيضاً وهذا هو المهم يؤدي مهمة هي أقرب إلى الجوهر الفني من طقوس البلاغة الفنية الجاهزة التي يخضع لها فنانو الموسم المنعمين بكرم دعوة رسمية.
كرم أحلام وعبد الإله كان مختلفاً، من جهة ما يوفره من حرية لا يخالطها الزيف السياحي. فالمكان النائي الذي أقيم فيه مركز الفن المعاصر يكاد أن يقع خارج حدود أصيلة وهو لا يذكّر بالقصبة التي تحتضن فعاليات الموسم الثقافي العتيد. يمرّ المرء قبل وصوله إلى المركز بمشاهد الحياة العادية في بلد له أناقته المتميزة في التماهي مع الجمال الفقير. الجمال الذي يدرك رفعة كرامته الناس العاديون. ما فعله عبد الإله لمسفري حين صمم عمارة المركز كان مدهشاً من جهة انسجامه مع روح المكان. فما من شيء في الخارج يوحي بالبذخ التصويري الداخلي. وهو بذخ ينقل ضيوفه من الواقع إلى الوهم وهو ما يحتاج إليه الفنانون.
في عامه الثالث يستضيف مركز الفن المعاصر رسامين مغاربة من العالم، بحضور عراقي هو أنا وسوداني هو الرسام راشد ذياب. فكرة غير مألوفة من جهة ما تنطوي عليه من سؤال محرج هو «هل استوعب الرسام المغربي شروط المكان الذي يقيم فيه أم أنه ظل سجين شروط المكان الذي قدم منه؟» في خضم ذلك التحدي لن تكون المسافة بين الفشل والنجاح واضحة، إلا بعد أن تمر من خلال عين نقدية غريبة. أكان أحمد جاريد الرسام المغربي الذي كان له دور كبير في اختيار المشاركين على درجة من الدهاء تؤهله لاختياري وذياب لكي نكون حكمَين في مسألة تبدو من الخارج كما لو أنها مسألة مغربية خاصة؟ شيء من هذا القبيل يمكن توقعه.
من وجهة نظري كان هناك مغرب آخر. بلد يخترعه رساموه المنفيون. كان المركز يقع على البحر مباشرة غير أن أثراً من ذلك البحر لم يظهر على اللوحات التي أنجزها رسامو الملتقى ورسّاماته. يرى المرء الزبد في الأبيض ولا يرى زرقة المياه إلا في لوحات أحلام لمسفري نفسها. لقد اكتفى الرسامون برعاية أوهامهم التقنية القديمة. كان المركز مكاناً للعمل وليس للإلهام. كانت لوحات أحمد جاريد هي الأكثر تأصيلاً لبلاغتها التجريدية المستلهمة من البيئة المحلية. وهي بلاغة ترقى بخيال واقعها إلى المستوى الذي يبيح لها نسيان المرئيات المباشرة. وبغض النظر عن كونه مختبراً نقدياً فإن مركز الفنون المعاصر الذي تحتضنه أصيله هو حاضنة حرية يفارقها المرء بشعور من ودع شيئاً عزيزاً على نفسه. ثلاثة أيام من الرسم الخالص تكفي لكي يرى المرء نفسه نوعاً من الكائنات المحلقة
الأحد، ٨ يونيو/ حزيران ٢٠١٤ (٠١:٠٠ - بتوقيت غرينتش)
فاروق يوسف